استثنائيّة بدت "مشهديّة" يوم الأحد، وإن تفاوتت وجهات النظر حول جانبي العفوية والتنظيم على خطّها، بعدما اختار أهل الجنوب لعب دور البطولة مرّة أخرى، ليتصدّوا لاحتلال قراهم الحدودية، بعدما انتظروا مُكرَهين انتهاء مهلة الستّين يومًا التي نصّ عليها اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، ليقودوا "مواجهة" من نوع آخر، لم يتأخّر المستويان السياسي والعسكري في الالتحاق بها، والتناغم معها.

ومع أنّ "حزب الله" حضر في الخلفية، بعد الشعب والجيش، وليس في الصفوف الأمامية، إلا أنّه بدا "الرابح الأكبر" من مشهد الأحد المهيب، الذي اعتبر كثيرون أنّه جاء ليحقّق جزءًا من "الانتصار" الذي بنى عليه سرديّته على مدى شهرين، من دون أن ينجح في إقناع الرأي العام بها، ليتولى شعب الجنوب زمام المبادرة، ويعيد إلى الأذهان مشهديّة "التحرير التاريخي" التي حفرت عميقًا في الذاكرة اللبنانية، منذ العام 2000.

وإذا كان "الحزب" حضر في الخلفية على الأرض، فإنّه لم يتأخّر في "توظيف" المشهد على مستوى السياسة، موجّهًا رسائل بالجملة في كلّ الاتجاهات، للداخل والخارج على حدّ سواء، وهو ما تجلّى في البيان الذي أصدره مساءً، وقوامه "إعادة الحياة" لثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، التي قال إنّها ليست "حبرًا على ورق"، في ردّ ضمني على ما يروّج له كثيرون من أنّ هذه المعادلة أصبحت "في خبر كان"، بعد الحرب الإسرائيلية.

وفي وقتٍ استُكمِلت رسائل بيان "حزب الله" بمواقف نوابه وقياديّيه الذين استعادوا أدبيّات "خطاب النصر"، ومنهم رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، جاءت المسيرات الليلية في مناطق لبنانية عدّة، وما انطوت عليه من "استفزازات" في مكانٍ ما، "شوّشت" على مشهدية النهار الطويل، لترسم المزيد من علامات الاستفهام، فما الذي أراد "حزب الله" قوله تحديدًا، وهل يندرج موقفه في خانة "الاستثمار السياسي" لتعويض الخسائر التي مني بها؟!.

في المبدأ، يمكن القول إنّ "حزب الله" استطاع فعلاً من خلال مشهديّة الأهالي وهم يدخلون إلى القرى الجنوبية، على الرغم من كلّ التهديد والوعيد الإسرائيلي، أن يحقّق ما عجز عنه على مدى شهرين، علمًا أنّ هناك من يرى أنّ إسرائيل ارتكبت "خطيئة" على هذا الصعيد، خدمت من خلالها "حزب الله"، حين أصرّت على تكريس احتلالها للأراضي اللبنانية، معتقدة أنّ الأمر سيمرّ مرور الكرام، كخروقاتها اليومية للاتفاق وللسيادة.

فعلى مدى الشهرين السابقين، اصطدمت سردية "الانتصار" التي حاول "حزب الله" الترويج لها بالكثير من السرديات المضادة، التي أفرغت "النصر" من مضمونه، استنادًا إلى الكثير من الاعتبارات، من بينها الخسائر الكبرى التي مني بها الحزب في الحرب، وعلى رأسها اغتيال أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، فضلاً عن اضطراره للتراجع عن بعض الثوابت التي كان قد كرّسها، من بينها وقف الحرب على غزة لوقف القتال.

وجاء اتفاق وقف إطلاق النار ببنوده المبهَمة، ليزيد من شعور "الخيبة" لدى جمهور المقاومة قبل غيره، خصوصًا أنّ هذا الاتفاق لم يؤدّ عمليًا إلى نهاية الحرب، بل كرّس ما وصفته إسرائيل بـ"حرية الحركة"، وسمح لها بأن تحقّق خلال شهرين ما عجزت عنه خلال الحرب، من خلال الدخول إلى عمق العديد من القرى الجنوبية، ولا سيما الحدودية منها، وهو ما لم يحصل مثلاً بعد حرب تموز 2006، حين بدت سرديّة "الانتصار" أكثر مشروعيّة.

وفي حين احتاج الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، لنحو ثلاث كلمات، لشرح أبعاد "الانتصار"، ومقاربة الحزب له، جاء الأداء السياسيّ للحزب ليسهم في تعزيز وجهة النظر المضادة، بما انطوى عليه من "إرباك" تحت عنوان "المرونة"، بدءًا من الاستحقاق الرئاسي وقبول الحزب بتسوية على مرشح كان رافضًا له في السابق، وصولاً إلى استحقاق رئاسة الحكومة، وخروجه منه "خاسرًا" بضربة الأكثرية النيابية القاضية.

إلا أنّ ما عجز عنه الحزب، أو أخفق فيه، إن جاز التعبير، على مدى الشهرين السابقين، حقّقه في لحظة واحدة، يوم الأحد، عبر مشهد "بطولي" تصدّره الناس، من المحسوبين عليه، والمنتمين إلى بيئته الحاضنة، ممّن اختاروا تكريس حقّهم في "المقاومة" في مواجهة عدوّ أصرّ على التمادي بخروقاته، لحدّ تحويل احتلاله لقراهم ومناطقهم إلى "أمر واقع"، حتى بعد انتهاء مهلة الستّين يومًا التي نصّ عليها الاتفاق، وعلى مرأى ومسمع الجهات "الضامنة".

لكن، أبعد من روحيّة الانتصار التي عكسها المشهد الجنوبي الساخن، والذي لم يمرّ من دون تضحيات كبيرة، أضيفت إلى سجلّ الحرب القاسية والمدمّرة، لا يبدو خافيًا على أحد أنّ "حزب الله" أراد استثمار ما حصل من أجل تحقيق "مكاسب سياسية"، ولعلّه بذلك أراد أن يواجه خصومه في الداخل تحديدًا، عبر القول إنّه لا يزال قويًا ومتماسكًا، وإنّ نفوذه لم يتقلّص، بدليل الحيثيّة الشعبية التي يمتلك، ما يعني أنّ تجاوزه والقفز فوقه "غير وارد".

في هذا السياق، يمكن أن يُقرَأ البيان الذي أصدره الحزب، والذي استعاد من خلاله ثلاثيّة "الجيش والشعب والمقاومة"، في ردّ "ضمني" على محاولات تجاوزها، وكأنّه يعيدها إلى التداول عشيّة تشكيل الحكومة الجديدة، التي يُقال إنّ بيانها الوزاري سيخلو منها هذه المرّة، خلافًا للحكومات المتعاقبة السابقة، وذلك عملاً بالمتغيّرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وما ترتّب عليها من نتائج، وانسجامًا مع خطاب القسم للرئيس جوزاف عون.

ويقول العارفون إنّ "حزب الله" الذي صمت على مدى الأيام السابقة عن كلّ ما أثير حول البيان الوزاري وغيره، أراد "اقتناص اللحظة" لتسجيل الموقف، في محاولة للاستفادة من المشهد، الذي يعتبر أنّه كرّس وجهة نظره من الأصل، فهو سلّم بالأمر الواقع، إن صحّ التعبير، وترك الدولة تعالج موضوع الخروقات الإسرائيلية، من دون أن يبادر هو إلى أيّ تحرّك، فإذا بالنتيجة أنّ الدولة أخفقت في المهمّة، وأنّ الناس هي التي قرّرت تشريع المقاومة.

إلا أنّ سرديّة "الانتصار" التي وجدت صداها نهارًا، اصطدمت بمشهديّة "غير مريحة" ليلاً، حتى لو لم يتبنّها الحزب صراحةً، ونسبتها بعض أوساطه ربما إلى "عناصر غير منضبطة"، إذ أعادت إلى الأذهان مشاهد سابقة، على غرار مسيرة "القمصان السود" الشهيرة، ما دفع كثيرين إلى التوجّس من أن يكون "الحزب" أراد توظيف ما حصل جنوبًا، من أجل فرض شروطه الحكومية، وربما الإيحاء بالعودة لمرحلة ما قبل "حرب الإسناد".

في النتيجة، لا شكّ أنّ مشهد الأحد المهيب لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام في "الأجندة" السياسية، حتى إن استُتبِع بإعلان تمديد اتفاق وقف إطلاق النار لثلاثة أسابيع إضافية، ولا شكّ أنّ من حقّ "حزب الله" الاستفادة من هذا المشهد، من أجل إعادة الاعتبار لنفسه، في مواجهة بعض المواقف "المزايدة" ضدّه. لكنّ الأكيد أنّ التضامن الوطني، الذي دعا إليه الحزب للمفارقة في بيانه، يجب أن يعلو على كلّ الاعتبارات، لأنّ سياسة الفرض، كما الإقصاء، لم تعد تجدي نفعًا!.